فصل: تنبيه: حذف نون الرفع له خمس حالات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


تنبيه

حذف نون الرفع له خمس حالات

ثلاث منها يجب فيها حذفها وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع، أما الثلاث التي يجب فيها الحذف فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم والثانية إذا دخل عليه عامل نصب والثالثة إذا أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون وأما الحالة التي يجوز فيها الإثبات والحذف فهي ما إذا اجتمعت مع نون الرفع نون الوقاية لكون المفعول ياء المتكلم فيجوز الحذف والإثبات ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية ‏{‏فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ بالكسر وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ‏}‏ بكسر النون مع التخفيف في الجميع أيضًا وقوله ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ بالكسر مع التخفيف أيضًا وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهي حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة كقول الراجز‏:‏ أبيت أسري وتبيت تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي

أما بقاء نون الرفع مع الجازم في قوله‏:‏

لولا فوارس من نعم وأسرتهم يوم الصليفاء لم يوفون بالجار

فهو نادر حملًا للم على أختها لا النافية أو ما النافية وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله‏:‏ أن تقرأن على أسماء ويحكما مني السلام وألا تشعرا أحدا

فهو لغة قوم حملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها كما أشار له في الخلاصة بقوله‏:‏ وبعضهم أهمل أن حملا على ما أختها حيث استحقت عملا

ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله قول الملائكة له فيما ذكر الله عنهم‏:‏ ‏{‏قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ‏}‏ بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ‏}‏ لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضًا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله‏:‏ ‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ‏}‏‏.‏ أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط وأهله غير امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ وصرح بأنهم قوم لوط بقوله في هود في القصة بعينها‏:‏ ‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ‏}‏ وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ومنزلون عليهم رجزًا من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏}‏ وقوله في في العنكبوت‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ‏}‏ وقوله ‏{‏فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏‏ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وما ذكر في هذه الآية الكريمة من استثناء امرأته من أهله الناجين في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏، أوضحه في هذه الآيات التي ذكرنا آنفًا ونحوها من الآيات، وبين في الذاريات أنه أنجى من كان في قوم لوط من المؤمنين وأنهم لم يكن فيهم من المسلمين إلا بيت واحد وهم آل لوط وذلك في قوله ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

تنبيه

في هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء لأنه تعالى استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله‏:‏ ‏{‏فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ‏}‏ وبهذا تعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة‏:‏

* وحكمها في القصد حكم الأول *

ليس صحيحًا على إطلاقه‏.‏ وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله‏:‏ وذا تعدد بعطف حصل بالاتفاق مسجلًا للأول

إلا فكل للذي به اتصل وكلها مع التساوي قد بطل

إن كان غير الأول المستغرقا فالكل للمخرج منه حققا

وحيثما استغرق الأول قط فألغ واعتبر بخلف في النمط

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون‏.‏ وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعًا بذلك كقوله في هود‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ وقوله في العنكبوت‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضًا قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ وقوله ‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ قيل معناه أنهم غير معروفين والنكرة ضد المعرفة وقيل إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ وقال الزمخشري في الكشاف‏:‏ منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر‏.‏ وقوله تعالى في هذه الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففًا اسم فاعل أنجى على وزن أفعل وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله‏:‏ ‏{‏قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ‏}‏ قرأه قالون والبنري وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع القصر والمد وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفًا مع القصر والمد وعن ورش أيضًا تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره والعلم عند الله تعالى‏.‏

‏{‏وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏ قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏‏.‏ سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شبابًا من بني آدم فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط كما يشير لذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن فيما أوقع من النكال بقوم لوط آيات للمتأملين في ذلك تحصل لهم بها الموعظة والاعتبار والخوف من معصية الله أن ينزل بهم مثل ذلك العذاب الذي أنزل بقوم لوط لما عصوه وكذبوا رسوله‏.‏ وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في العنكبوت‏:‏ ‏{‏وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ وقوله في الذاريات‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ وقوله هنا‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ وقوله في الشعراء بعد ذكر قصة قوم لوط‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏، كما صرح بمثل ذلك في إهلاك قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب في الشعراء وقوله‏:‏ ‏{‏لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ أصل التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها‏.‏ يقال توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه أي علامته التي تدل عليه، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت النظر

وقال الآخر‏:‏ توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم

هذا أصل التوسم وللعلماء فيه أقوال متقاربة يرجع معناها كلها إلى شيء واحد‏.‏ فعن قتادة للمتوسمين أي المعتبرين، وعن مجاهد للمتوسمين أي المتفرسين، وعن ابن عباس والضحاك للمتوسمين أي للناظرين، وعن مالك عن بعض أهل المدينة للمتوسمين أي للمتأملين‏.‏

ولا يخفى أن الاعتبار والنظر والتفرس والتأمل معناها واحد، وكذلك قول ابن زيد ومقاتل للمتوسمين أي للمتفكرين، وقول أبي عبيدة للمتوسمين أي للمبتصرين، فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل وإطلاق التوسم على التأمل والنظر، والاعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير‏:‏ وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم

أي المتأمل في ذلك الحسن، وقول طريق بن تميم العنبري‏:‏ أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسم

أي ينظر ويتأمل‏.‏ وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ للناظرين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏‏:‏ قال للمعتبرين‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ هم المتفرسون‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ هم المتفرسون‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم معًا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله‏"‏ ثم قرأ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏للمتفرسين‏"‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله‏"‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ثوبان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله‏"‏‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي والبزار وابن السني وأبو نعيم عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم‏"‏‏.‏ اهـ‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم لوط وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم لئلا ينزل الله بكم مثل ما أنزل بهم وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـافِرِينَ أَمْثَـالُهَا‏}‏‏.‏ وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه جل وعلا انتقم منهم بسبب ظلمهم، وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء ‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيب رسولهم وتطفيفهم في الكيل وبخسهم الناس أشياءهم، وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة، وبين أن عذاب يوم عظيم، والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارًا فأحرقتهم والعلم عند الله تعالى‏.‏

قرأ نافع وابن عامر وابن كثير ‏"‏ليكة‏"‏‏.‏ في ‏"‏الشعراء‏"‏ و ‏"‏ص‏"‏ بلام مفتوحة أول الكلمة وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ولا تعريف على أنه اسم للقرية غير منصرف‏.‏ وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ‏"‏الأيكة‏"‏ بالتعريف والهمز وكسر التاء، وقرأ كذلك جميع القراء في ‏"‏ق‏"‏ و ‏"‏الحجر‏"‏‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ليكة والأيكة اسم مدينتهم كمكة وبكة، والأيكة في لغة العرب الغيضة وهي جماعة الشجر والجمع الأيك، وإنما سموا أصحاب الأيكة لأنهم كانوا أصحاب غياض ورياض، ويروى أن شجرهم كان دومًا وهو المقل، ومن إطلاق الأيكة على الغيضة قول النابغة‏:‏ تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردًا أسف لثانه بالإثمد

وقال الجوهري في صحاحه‏:‏ ومن قرأ أصحاب الأيكة فهي الغيضة، ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية، ويقال‏:‏ هما مثل بكة ومكة‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ الأيكة الشجرة، والأيك هو الشجر الملتف‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏.‏

الحجر‏:‏ منازل ثمود بين الحجاز والشام عند وادي القرى‏.‏ فمعنى الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏، وقد بين تعالى تكذيب ثمود لنبيه صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في مواضع أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وإنما قال إنهم كذبوا المرسلين مع أن الذي كذبوه هو صالح وحده لأن دعوة جميع الرسل واحدة، وهي تحقيق معنى ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ كما بينه تعالى بأدلة عمومية وخصوصية‏.‏ قال معممًا لجميعهم‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقال في تخصيص الرسل بأسمائهم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

فإذا حققت أن دعوة الرسل واحدة عرفت أن من كذب واحدًا منهم فقد كذب جميعهم‏.‏ ولذا صرح تعالى بأن من كفر ببعضهم فهو كافر حقًا‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ وبين أنه لا تصح التفرقة بينهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ووعد الأجر على عدم التفرقة بينهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏‏.‏

وقد بينا هذه المسألة في كتابنا ‏"‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏"‏‏.‏

تنبيه

اعلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بالحجر المذكور في هذه الآية في طريقه في غزوة تبوك، فقد أخرج البخاري في صحيحه في غزوة تبوك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ لمَّا مرَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال‏:‏ ‏"‏لا تدخلوا مسكان الَّذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلاَّ أن تكونوا باكين ثمَّ قنَّع رأسه وأسرع السَّير حتَّى أجاز الوادي‏"‏‏.‏ وهذا لفظ البخاري‏.‏ وأخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك، ‏"‏أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها‏.‏ فقالوا قد عجنَّا منها واستقينا، فأمرهم أَن يطرحوا ذلك العجين ويهرقو ذلك الماء‏"‏‏.‏ ثم قال البخاري‏:‏ ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏أمر بإلقاء الطَّعام‏"‏ ثم قال‏:‏ وقال أبو ذر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من اعتجن بمائه‏"‏‏.‏

ثم ساق بسنده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخبره‏:‏ أَنَّ النَّاس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا به فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أن يهرقوا ما استقوا من بيارهم وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستسقوا من البئر التي تردها النَّاقة‏"‏ ثم قال‏:‏ تابعه أسامة عن نافع‏.‏ ثم ساق بسنده عن سالم بن عبد الله عن أبيه‏:‏ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مر بالحجر قال‏:‏ ‏"‏لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أَن يصيبكم ما أصابهم‏.‏ ثمَّ تقنَّع بردائه وهو على الرَّحل‏"‏‏.‏

ثم ساق أيضًا بسنده عن سالم أن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابكم‏"‏ هذا كله لفظ البخاري في صحيحه‏.‏ وقال ابن حجر في الفتح‏:‏ أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة وهو بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة ـ الجهني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين راح من الحجر‏:‏ ‏"‏من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة أو حاس حيسًا فليلقه‏"‏ وليس لسبرة بن معبد في البخاري إلا هذا الموضع‏.‏ وأما حديث أبي الشموس ـ وهو بمعجمة ثم مهملة، وهو بكري لا يعرف اسمه ـ فوصله البخاري في الأدب المفرد والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال‏:‏ ‏"‏كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏ ـ فذكر الحديث وفيه فألقى ذو العجين عجينة وذو الحيس حيسه‏"‏ ورواه ابن أبي عاصم من هذا الوجه وزاد‏:‏ ‏"‏فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حست حيسة فألقمها راحلتي قال نعم‏"‏‏.‏

وقال ابن حجر أيضًا‏:‏ قوله وقال أبو ذر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏من اعتجن بمائه‏"‏ وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه‏:‏ ‏"‏أنهم كانوا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فآتوا على واد فقال لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنكم بواد ملعون فأسرعوا‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏من اعتجن عجينة أو طبخ قدرًا فليكبها‏"‏ الحديث ـ وقال‏:‏ لا أعلمه إلا بهذا الإسناد‏.‏ وأخرج البخاري في تفسير قوله تعالى ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الحجر‏:‏ ‏"‏لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكِين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏"‏ وأخرج البخاري أيضًا عن ابن عمر ‏"‏في كتاب الصلاة‏"‏ في ‏"‏باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم‏"‏ وبعض هذه الروايات الذي ذكرناها عن البخاري أخرجه مسلم أيضًا في صحيحه، فقد اتفقا على النهي عن دخول ديارهم إلا في حال البكاء، وعلى إسراعه صلى الله عليه وسلم حتى جاوز ديارهم‏.‏ وفي هذه الروايات الصحيحة النهي عن الدخول إلى مواضع الخسف والعذاب إلا في حالة البكاء، وفيها الإسراع بمجاوزتها وعدم الاستسقاء من مياهها، وعدم أكل الطعام الذي عجن بها، ومن هنا قال بعض العلماء‏:‏ لا يجوز التطهر بمائها ولا تصح الصلاة فيها لأن ماءها لما لم يصلح للأكل والشرب علم أنه غير صالح للطهارة التي هي تقرب إلى الله تعالى‏.‏ قال البخاري في صحيحه ‏"‏باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب‏"‏ ويذكر أن عليًا رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل‏.‏ وقال ابن حجر في الفتح‏:‏ هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي المُحِل ـ وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام ـ قال ‏"‏كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه أي تعداه‏"‏ ومن طريق أخرى عن علي قال‏:‏ ‏"‏ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرار‏"‏ والظاهر أن قوله ثلاث مرار ليس متعلقًا بالخسف لأنه ليس فيها إلا خسف

واحد‏.‏ وإنما أراد أن عليًا قال ذلك ثلاثًا‏.‏ ورواه أبو داود مرفوعًا من وجه آخر عن علي ولفظه‏:‏ ‏"‏نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة‏"‏ في إسناده ضعف واللائق بتعليق المصنف ما تقدم والمراد بالخسف هنا ما ذكره الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏، ذكر أهل التفسير والأخبار‏:‏ أن المراد بذلك أن النمروذ بن كنعان بنى ببابل بنيانًا عظيمًا يقال إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع فخسف الله بهم‏:‏ قال الخطابي‏:‏ ‏"‏لا أعلم أحدًا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل‏"‏ انتهى محل الغرض من فتح الباري‏.‏

وقول الخطابي ـ يعارضه ما رأيته عن علي رضي الله عنه، ولكنه يشهد له عموم الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏وجعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا‏"‏ وحديث أبي داود المرفوع عن علي الذي أشار له ابن حجر أن فيه ضعفًا هو قوله‏:‏ ‏"‏حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب قال حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري‏:‏ أن عليًا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر‏.‏ فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ منها قال‏:‏ ‏"‏إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة‏"‏‏.‏

حدثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى سليمان بن داود قال‏:‏ ‏"‏فلما خرج‏"‏ مكان ‏"‏فلما برز‏"‏ اهـ وقد يظهر للناظر في إسنادي هذا الحديث أنه لا يقل عن درجة القبول، ولكن فيه علة خفية نبه عليها ابن يونس أما كونه لا يقل عن درجة القبول فلأن طريقته الأولى أول طبقاتها سليمان بن داود ولا خلاف في كونه ثقة، وفي الثانية أحمد بن صالح مكان سليمان المذكور، وأحمد بن صالح ثقة حافظ‏.‏ وكلام النسائي فيه غلط مردود عليه كما قال العراقي في ألفيته‏:‏ وربما رد كلام الجارح كالنسائي في أحمد بن صالح

وسبب غلطه في ذلك أن ابن معين كذب أحمد بن صالح الشموني‏.‏ فظن النسائي أن مراد ابن معين أحمد بن صالح هذا الذي هو أبو جعفر بن الطبري المصري وليس كذلك كما جزم به ابن حبان‏.‏

والطبقة الثانية في كلا الإسنادين‏:‏

ابن وهب وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري ثقة حافظ عابد مشهور‏.‏

والطبقة الثالثة من الإسنادين‏:‏ يحيى بن أزهر وعبد الله بن لهيعة ويحيى بن أزهر البصري مولى قريش صدوق، وعبد الله بن لهيعة صدوق خلط بعد احتراق كتبه‏.‏ والظاهر أن اعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن‏.‏ ويؤيد ذلك أن راوي الحديث ابن وهب ومعلوم أن رواية ابن وهب وابن المبارك عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيرهما عنه‏.‏

والطبقة الرابعة في الإسناد الأول‏:‏ عمار بن سعد المرادي‏.‏ وفي الإسناد الثاني الحجاج بن شداد وعمار بن سعد المرادي ثم السلهمي والحجاج بن شداد الصنعاني نزيل مصر كلاهما مقبول كما قاله ابن حجر في التقريب، واعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن‏.‏

والطبقة الخامسة في كلا الإسنادين‏:‏ أبو صالح الغفاري وهو سعيد بن عبد الرحمن وعداده في أهل مصر، وهو ثقة‏.‏

والطبقة السادسة في كليهما‏:‏ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فالذي يظهر صلاحية الحديث للاحتجاج ولكنه فيه علة خفية ذكرها ابن يونس، وهي أن رواية أبي صالح الغفاري عن علي مرسلة كما ذكره ابن حجر في التقريب‏.‏ وقال البيهقي في السنن الكبرى ‏"‏باب من كره الصلاة في موضع الخسف والعذاب‏"‏ أنبأ أبو علي الروذباري أنبأ أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود، ثم ساق حديث أبي داود المذكور آنفًا بلفظه في المتن والإسنادين‏.‏ ثم قال‏:‏ وروينا عن عبد الله بن أبي محل العمري قال‏:‏ كنا مع علي بن أبي طالب فمر بنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه‏"‏ وعن حجر الحضرمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرات‏"‏‏.‏ ثم قال البيهقي‏:‏ وهذا النهي عن الصلاة فيها إن ثبت مرفوعًا ليس لمعنى يرجع إلى الصلاة‏.‏ فلو صلى فيها لم يعد ثم ساق البيهقي بعض روايات حديث ابن عمر الذي قدمنا عن البخاري ومسلم ثم قال‏:‏ إن النَّبي صلى الله عليه وسلم أحب الخروج من تلك المساكن، وكره المقام فيها إلا باكيًا فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها‏.‏ اهـ‏.‏

وهذا الذي ذكرنا هو حاصل ما جاء في الصلاة في مواضع الخسف والتطهر بمياهها، فذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة بها صحيحة والتطهر بمائها مجزىء واستدلوا بعموم النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وجعلت لي الأرض كلها مسجدًا‏"‏ الحديث‏.‏ وكعموم الأدلة على رفع الحدث وحكم الخبث بالماء المطلق‏.‏ وذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تجوز الصلاة فيها ولا تصح الطهارة بمائها واستدلوا بحديث على المرفوع أن حبيبه صلى الله عليه وسلم ‏"‏نهاه عن الصلاة في خسف بابل لأنها أرض ملعونة‏"‏ قالوا‏:‏ والنهي يقتضي الفساد لأن ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم ليس من أمرنا، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد كما ثبت في الحديث‏.‏ واحتجوا لعدم الطهارة بمائها بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم منع من استعماله في الأكل والشرب وهما ليسا بقربة‏.‏ فدل ذلك على منع الطهارة به من باب أولى‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الذي يظهر لنا رجحانه أن من مر عليها ينبغي له أن يسرع في سيره حتى يخرج منه كفعله صلى الله عليه وسلم وفعل صهره وابن عمه وأبي سبطيه رضي الله عنهم جميعًا، وأنه لا يدخل إلا باكيًا للحديث الصحيح‏.‏ فلو نزل فيها وصلى فالظاهر صحة صلاته إذ لم يقم دليل صحيح بدلالة واضحة على بطلانها، والحكم ببطلان العبادة يحتاج إلى نص قوي المتن والدلالة والعلم عند الله تعالى‏.‏

مسائل لها تعلق بهذه الآية الكريمة

قد علمت أن الحجر المذكور في هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏:‏ هو ديار ثمود، وأنه ورد النهي عن الصلاة في مواضع الخسف‏.‏

فبهذه المناسبة نذكر الأماكن التي نهى عن الصلاة فيها ونبين، ما صح فيه النهي وما لم يصح‏.‏

والمواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها تسعة عشر موضعًا ستأتي كلها عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏نهى أن يصلى في سبعة مواطن‏:‏ في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله‏"‏ رواه عبد بن حميد في مسنده والترمذي وابن ماجه‏.‏ وقال الترمذي في إسناده‏:‏ ليس بذاك‏.‏ وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏ والحديث ضعيف لا تقوم به حجة‏.‏ لأن الإسناد الأول فيه زيد بن جبيرة وهو متروك، قال فيه ابن حجر في التقريب متروك‏.‏ وقال في تهذيب التهذيب‏:‏ قال ابن معين هو لا شيء‏.‏ وقال البخاري منكر الحديث‏.‏ وقال في موضع آخر متروك الحديث‏.‏ وقال النسائي ليس بثقة وقال أبو حاتم ضعيف الحديث، منكر الحديث جدًا، متروك الحديث لا يكتب حديثه‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد‏.‏ قلت وقال الساجي حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جدًا، يعني حديث النهي عن الصلاة في سبع مواطن‏.‏ وقال الفسوي ضعيف منكر الحديث‏.‏ وقال الأزدي متروك وقال ابن حبان يروى المناكير عن المشاهير فاستحق التنكب عن روايته وقال الحاكم روى عن أبيه وداود بن الحصين وغيرهما المناكير وقال الدارقطني ضعيف‏.‏ قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ضعيف اهـ كلام ابن حجر‏.‏ وأحد إسنادي ابن ماجه فيه أبو صالح كاتب الليث وهو كثير الغلط، وفيه ابن عمر العُمري ضعفه بعض أهل العلم وأخرج له مسلم‏.‏ وقال ابن أبي حاتم في العلل‏:‏ هما جميعًا ـ يعني الحديثين ـ واهيان‏.‏ وصحح الحديث المذكور ابن السكن وإمام الحرمين‏.‏

اعلم أولًا أن المواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها هي السبعة المذكورة، والصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة والكنيسة والبيعة وإلى التماثيل وفي دار العذاب وفي المكان المغصوب والصلاة إلى النائم والمتحدث وفي بطن الوادي وفي مسجد الضرار والصلاة إلى التنور، فالمجموع تسعة عشر موضعًا‏.‏ وسنبين أدلة النهي عنها مفصلة إن شاء الله تعالى أما في مواضع الخسف والعذاب فقد تقدم حكم ذلك قريبًا‏.‏

وأما الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر فكلاهما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه‏.‏ أما الصلاة في المقابر فقد وردت أحاديث صحيحة في النهي عنها منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته ‏"‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏ يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره صلى الله عليه وسلم غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي الصحيحين أيضًا نحوه عن أبي هريرة وقد ثبت في الصحيح أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي بعض الروايات‏.‏ المتفق عليها ‏"‏لعن الله اليهود والنصارى‏"‏ وفي بعض الروايات الصحيحة الاقتصار على اليهود‏.‏ والنَّبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا على فعل حرام شديد الحرمة‏.‏ وعن جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول‏:‏ ‏"‏إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا‏.‏ ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد‏.‏ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ، رواه النسائي أيضًا‏.‏

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا‏"‏ أخرجه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ‏"‏ولا تتخذوها قبورًا‏"‏ دليل على أن القبور ليست محل صلاة وقال بعض العلماء‏:‏ يحتمل أن يكون معنى الحديث صلوا ولا تكونوا كالأموات في قبورهم فإنهم لا يصلون‏.‏ وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا‏:‏ ‏"‏إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد‏"‏ ورواه ابن أبي حاتم أيضًا‏.‏

والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة لا مطعن فيها، وهي تدل دلالة واضحة على تحريم الصلاة في المقبرة‏.‏ لأن كل موضع صلي فيه يطلق عليه اسم المسجد، لأن المسجد في اللغة مكان السجود، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ‏"‏وجعلت لي الأرض مسجدًا‏"‏ الحديث أي كل مكان منها تجوز الصلاة فيه‏.‏ وظاهر النصوص المذكورة العموم سواء نبشت المقبرة واختلط ترابها بصديد الأموات أو لم تنبش‏.‏ لأن علة النهي ليست بنجاسة المقابر كما يقوله الشافعية، بدليل اللعن الوارد من النَّبي صلى الله عليه وسلم على من اتخذ قبور الأنبياء مساجد‏.‏ ومعلوم أن قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليست نجسة فالعلة للنهي سد الذريعة لأنهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور‏.‏ فالظاهر من النصوص المذكورة منع الصلاة عند المقابر مطلقًا وهو مذهب الإمام أحمد وفي صحتها عنده روايتان وإن تحققت طهارتها‏.‏ وذهب مالك إلى أن الصلاة فيها مكروهة‏.‏ وذهب الشافعية إلى أنها إذا كانت نجسة لاختلاط أرضها بصديد الأموات لأجل النبش فالصلاة فيها باطلة، وإن كانت لم تنبش فالصلاة فيها مكروهة عندهم‏.‏ وذكر النووي عن ابن المنذر أنه قال‏:‏ روينا عن علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة‏.‏ قال‏:‏ ولم يكرهها أبو هريرة وواثلة بن الأسقع والحسن البصري ونقل صاحب الحاوي عن داود أنه قال‏:‏ تصح الصلاة وإن تحقق نبشها‏.‏ وذكر ابن حزم النهي عن الصلاة في المقبرة عن خمسة من الصحابة‏:‏ وهم عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس‏.‏ وقال‏:‏ ما نعلم لهم مخالفًا، وحكاه عن جماعة من التابعين إبراهيم النخعي ونافع بن جبير بن مطعم وطاوس وعمرو بن دينار وخيثمة وغيرهم‏.‏ وقد حكى الخطابي في معالم السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة‏.‏ وحكي أيضًا عن الحسن أنه صلى في المقبرة‏.‏